كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي التَّحَابِّ فِي اللهِ مَا يُنْبِئُ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَاتَّفَقَ حُكَمَاءُ الْبَشَرِ غَابِرُهُمْ وَحَاضِرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ لِسَعَادَةِ الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ وَارْتِقَائِهِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا فُقِدَتْ لَا يَحُلُّ مَحِلَّهَا شَيْءٌ فِي مَنْعِ الشَّرِّ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ، إِلَّا فَضِيلَةُ الْعَدْلِ. وَلَمَّا كَانَتْ وَهْمِيَّةً غَيْرَ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَكَانَ الْعَدْلُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ، جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمَحَبَّةَ فَضِيلَةً وَالْعَدْلَ فَرِيضَةً، وَأَوْجَبَهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَحُكُومَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ كَافِرٍ، وَلَا بَرٌّ دُونَ فَاجِرٍ، وَلَا قَرِيبٌ مِنَ الْحَاكِمِ دُونَ بَعِيدٍ، وَلَا غَنِيٌّ دُونَ فَقِيرٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفسِيرِ الْآيَاتِ الْمُقَرِّرَةِ لَهُ وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِكِفَايَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ شَرَّ خِدَاعِ الْأَعْدَاءِ، وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، لَا لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْعُمْدَةَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْكِفَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ أَيِ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ خِدَاعُ الْخَادِعِينَ، وَلَا كَيْدُ الْمَاكِرِينَ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ كَنَصْرِهِ الْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَفِي أَحْكَامِهِ كَتَفْضِيلِهِ الْجُنُوحَ لِلسَّلْمِ إِذَا جَنَحَ إِلَيْهَا الْعَدُوُّ عَلَى الْحَرْبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيلًا لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُعَلِّلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا كَانَ إِلَّا بِعَزَّةَ اللهِ وَحِكْمَتِهِ فِي إِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي [الْآيَةِ 61] أَنْ يَجْنَحَ لِلسَّلْمِ إِذَا جَنَحَ لَهَا الْأَعْدَاءُ، وَكَانَ جُنُوحُ الْأَعْدَاءِ لَهَا مَظِنَّةَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِهَا، وَعَدَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي [الْآيَةِ 62] بِأَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَهُمْ إِذَا هُمْ أَرَادُوا التَّوَسُّلَ بِالصُّلْحِ إِلَى الْحَرْبِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْإِيذَاءِ وَالشَّرِّ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كِفَايَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ تَأْيِيدُهُ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ سَخَّرَهُمْ لَهُ وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ بِاتِّبَاعِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِكِفَايَتِهِ لَهُ وَلِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَلَّفَ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَرْبِ كَحَالِ السَّلْمِ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَجَعَلَ هَذَا الْوَعْدَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِهِ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ بَدْءِ الْعَدُوِّ بِالْحَرْبِ، أَوْ خِيَانَتِهِمْ فِي الصُّلْحِ، أَوْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ كَافٍ لَكَ كُلَّ مَا يُهِمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَافٍ لِمَنْ أَيَّدَكَ بِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- فَالْحَسْبُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ كِفَايَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالٍ خَاصَّةٍ، وَفِي هَذِهِ كِفَايَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ قِتَالٍ أَوْ صُلْحٍ يَفِي بِهِ الْعَدُوُّ أَوْ يَخُونُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُونِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى: وَحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَإِنَّهُ يَنْصُرُكَ بِهِمْ. وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَمَالِ التَّوْحِيدِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ كِفَايَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَلَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ أَوْ غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [3: 173] فَالْحَسْبَلَةُ مُقْتَضَى التَّوَكُّلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [39: 38] أَيْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، بِدَلَالَةِ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا الْحَصْرِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [9: 59] أَيْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عَلَّمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُسْنِدُوا الْإِعْطَاءَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْطِي الَّذِي فَرَضَ الصَّدَقَاتِ وَأَوْجَبَهَا، وَإِلَى رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَسِّمُهَا- وَأَنْ يُسْنِدُوا كِفَايَةَ الْإِحْسَابِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَتَكُونُ رَغْبَتُهُمْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، إِذْ لَا يَكْفِي الْعِبَادَ إِلَّا رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ. كَمَا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [39: 36] وَلاسيما الْكِفَايَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِحَسْبِكَ، أَيِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الْمُكْفَى: حَسْبِي حَسْبِي، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ دَأْبَ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِجِّيرَاهُمْ {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَأَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ أَوْلَى بِهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا وَتَوَكُّلًا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَنَاهِيكَ بِخَاتَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَاهِيكَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَذِهِ الْكِفَايَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ رَاوِيًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: حَسْبُكَ اللهُ وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ مَعَكَ.
(قَالَ): وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخَرَسَانِيِّ مِثْلُهُ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. اهـ.
أَقُولُ: وَهَذَا الْمَعْنَى قَرَّرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَبْطَلَ مُقَابِلَهُ. فَاحْتِمَالُ عَطْفِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَإِنْ عَدَّهُ النُّحَاةُ أَظْهَرَ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ الَّتِي يَتَعَصَّبُ لَهَا جُمْهُورُهُمْ، وَمَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمٍ وَلَا فَنٍّ لَهُمْ مَذْهَبٌ يُخَالِفُهُ آخَرُونَ إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِمْ وَلِأَئِمَّةِ فَنِّهِمْ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ هَاهُنَا: إِنَّ قوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، أَيِ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَاشْتَجَرَ الْقَنَا ** فَحَسْبُكُ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدِ

قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: حَسْبُكُ وَأَخَاكَ، بَلِ الْمُعْتَادُ أَنْ يُقَالَ: حَسْبُكَ وَحَسْبُ أَخِيكِ- وَلِهَذَا فَضَّلَ الْفَرَّاءُ الْوَجْهَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: يَكْفِيكَ اللهُ وَيَكْفِيكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِيثَارًا مِنْهُ لِلرَّاجِحِ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ الْبَصْرِيِّينَ، عَلَى الرَّاجِحِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ النَّحْوِيُّ فَإِنَّهُ تَعَقَّبَ إِعْرَابَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ زَيْدًا فِي قَوْلِهِمْ: حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَكَفَى زَيْدًا دِرْهَمٌ، وَلَا غَرْوَ فَأَبُو حَيَّانَ هَذَا كَانَ مُعْجَبًا بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَشَدِيدَ الْإِطْرَاءِ لَهُ، وَقَدْ مَدَحَهُ فِي حَضْرَتِهِ بِأَبْيَاتٍ شَبَّهَهُ فِيهَا بِالصَّحَابَةِ جُمْلَةً- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَبِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه خَاصَّةً، وَشَهِدَ لَهُ بِتَجْدِيدِ الدِّينِ حَتَّى قَالَ فِيهَا:
يَا مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عِلْمِ الْكِتَابِ أَصِخْ ** هَذَا الْإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرْ

ثُمَّ إِنَّهُ ذَاكَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ لَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: مَا كَانَ سِيبَوَيْهِ نَبِيَّ النَّحْوِ وَلَا مَعْصُومًا، بَلْ أَخْطَأَ فِي الْكِتَابِ (أَيْ كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي النَّحْوِ) فِي ثَمَانِينَ مَوْضِعًا مَا تَفْهَمُهَا أَنْتَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يُفَسِّرُ سِيبَوَيْهِ. فَقَاطَعَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ بِكُلِّ سُوءٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الدُّرَرِ الْكَامِنَةِ. وَلَوْلَا تَعَصُّبُ هَؤُلَاءِ لِأَئِمَّةٍ فَنِّهِمْ لَمَا جَعَلُوا فَهْمَ سِيبَوَيْهِ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ التَّوْحِيدِ مِنْ مَعْنَى عِبَارَةِ الْقُرْآنِ. وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا الْعُلَمَاءُ بِعَصَبِيَّتِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ لِزُعَمَائِهِمْ لَمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
هَذَا وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا جَمَاعَتُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلاسيما الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مِنْهُمْ، لَا فِي الْأَنْصَارِ وَحْدَهُمْ كَمَا قِيلَ هُنَا وَهُنَاكَ، فَإِنَّ جُلَّ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ فِي شَأْنِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ الْكُبْرَى كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَمَا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ أَرْبَعِينَ نَسَمَةً، مِنْهُمْ سِتُّ نِسْوَةٍ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَرَوَاهُ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِثْلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالسُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَاهَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ إِلَّا فِي وَقْتِ نُزُولِ سُورَتِهَا، وَلَا الْمَعْنَى الْآخَرُ الْمَرْجُوحُ الَّذِي أَرَادَهُ وَاضِعُ الرِّوَايَةِ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَرْبَعِينَ لَمْ تَتَحَقَّقْ بِهِمْ كِفَايَةُ الْإِحْسَابِ بِالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُمْ وَاضْطِهَادُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلِ اضْطَرَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الْخَاصَّةِ.
وَلَمَّا ضَمِنَ اللهُ تَعَالَى إِحْسَابَهُ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّحْرِيضُ: الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ بِكَثْرَةِ التَّنْزِيلِ وَتَسْهِيلِ الْخَطْبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ إِزَالَةُ الْحَرَضِ فِي نَحْوِ مَرَّضْتُهُ وَقَذَّيْتُهُ، أَيْ أَزَلْتُ عَنْهُ الْمَرَضَ وَالْقَذَى. اهـ.
وَالْحَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ الْمُشْفِي، أَيِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ كَمَا فِي الْأَسَاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَحُثَّ الْإِنْسَانَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مُقَارِبٌ لِلْهَلَاكِ- أَيْ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ لِدَفْعِ عُدْوَانِ الْكُفَّارِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهَا، عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَأَنْصَارِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَسُنَّةُ التَّنَازُعِ فِي الْحَيَاةِ وَالسِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا اخْتِيَارُ التَّحْرِيضِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ الْعَامِّ كَالتَّحْضِيضِ وَالْحَثِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: حُثَّهُمْ عَلَى مَا يَقِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا حَرَضًا أَوْ يَكُونُوا مِنَ الْهَالِكِينَ بِعُدْوَانِ الْكَافِرِينَ عَلَيْهِمْ، وَظُلْمِهِمْ لَهُمْ إِذَا رَأَوْهُمْ ضُعَفَاءَ مُسْتَسْلِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هَذَا شَرْطٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءَ بِدَلِيلِ التَّخْفِيفِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ التَّشْرِيعِ لَا الْإِخْبَارِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَيْهِ بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ فَفِيهِ مَا سَيَأْتِي مِنْ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ فِي دَرَجَتِي الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْخَبَرِيِّ: {إِنْ} يُوجَدْ {مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا} بِتَأْثِيرِ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَفِقْهِهِمْ {مِائَتَيْنِ} {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْمُجَرَّدِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَلْ هُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ فِي الْآيَتَيْنِ [55 و56] مِنْ هَذَا السِّيَاقِ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ؟ أَمْ بَعْدَ هَذَا سِيَاقًا آخَرَ فَيَعُمُّ نَصُّهُ كُلَّ الْكُفَّارِ الْمُتَّصِفِينَ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ هَذَا الْغَلَبِ فِي مَنْطُوقِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ وَفِي مَفْهُومِ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّابِرِينَ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي، وَالْمَعْنَى الْإِنْشَائِيُّ لَهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ وَالْقُوَّةِ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ أَرْجَحَ مِنَ الْكُفَّارِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ الْعَشْرِيَّةِ سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا بِحَيْثُ يُؤْمَرُونَ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ مِنْهُمْ إِذَا بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْعَشَرَاتِ مَعَ الْمِئَاتِ، وَبَيْنَ الْمِائَةِ مَعَ الْأَلْفِ وَهُوَ نِهَايَةُ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَنُكْتَةُ إِيرَادِ هَذَا الْحُكْمِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، الْإِشَارَةُ إِلَى جَعْلِهِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الْفُقَهَاءَ يَكُونُونَ كَذَلِكَ فِعْلًا، وَكَذَلِكَ كَانُوا، كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَمَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ الْعَشْرِيَّةَ بَيْنَ الصَّابِرِينَ مِنْكُمْ وَبَيْنَهُمْ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ مَا تَفْقَهُونَ مِنْ حِكْمَةِ الْحَرْبِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً لَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ فِي الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، وَإِصْلَاحِ حَالِ عِبَادِهِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ، وَمِنْ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ وَوُعُودِهِ تَعَالَى فِيهَا بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ مَادِّيَّةٍ، وَمُرَابَطَةٍ دَائِمَةٍ، وَمِنْ قُوَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعَدَمِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ إِلَّا تَحَيُّزًا إِلَى فِئَةٍ أَوْ تَحَرُّفَا لِقِتَالٍ، وَذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِمْدَادِ نَصْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَمِنْ كَوْنِ غَايَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الشَّهَادَةِ وَالسَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ أَكْثَرُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَهُوَ كَافٍ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِخِلَافِ حَالِ الْكَافِرِينَ، وَلاسيما مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَطَامِعُ الْمَادِّيَّةُ وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ، فَأَغْرَاضُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، يَصْرِفُهُمْ عَنِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا الْيَأْسُ مِنْ حُصُولِهَا، وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَيَاةِ لِعَدَمِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَلِغُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحُصُولِهَا لَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَشَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْعَوْا لَهَا سَعْيَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [2: 96] الْآيَةَ.
وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْفِقْهِ وَالْفَقَاهَةِ فِي مَوَاضِعَ، أَوْسَعُهَا بَيَانًا وَتَفْصِيلًا تَفْسِيرُ قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [7: 179] إِلَخْ. فَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنْهَا الْقِتَالُ، وَذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا النَّوْعِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَصَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [59: 13] فَالْفِقْهُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالْحَقَائِقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرْبِ مِنْ مَادِّيَّةٍ وَرُوحِيَّةٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ النَّجَاحِ، وَسَبَبٌ لِلنَّصْرِ جَامِعٌ لِسَائِرِ الْأَسْبَابِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَعْلَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَفْقَهَ بِكُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ يَتَعَلَّقُ بِحَيَاةِ الْبَشَرِ وَارْتِقَاءِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ حِرْمَانَ الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ الْمِائَةِ مِنْهُمْ دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ. وَهَكَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُرُونِهِمُ الْأُولَى وَالْوُسْطَى بِهِدَايَةِ دِينِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِ عُلَمَائِهِمْ وَحُكَّامِهِمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا مَا فَسَدُوا بِتَرْكِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَعِدُوا بِهَا فِي دُنْيَاهُمْ فَكَانُوا أَصْحَابَ مُلْكٍ وَاسِعٍ وَسِيَادَةٍ عَظِيمَةٍ دَانَتْ لَهُمْ بِهَا الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ- زَالَ ذَلِكَ الْمَجْدُ وَالسُّؤْدُدُ، وَنُزِعَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ ذَلِكَ الْمُلْكِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِمَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ، إِذْ صَارُوا أَبْعَدَ عَنِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ الَّذِي فَضَلُوا بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، ثُمَّ انْتَهَى الْمَسْخُ وَالْخَسْفُ بِأَكْثَرِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَهُمْ إِلَى اعْتِقَادِ مُنَافَاةِ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ، وَالْقُوَّةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي هِيَ قِوَامُهَا، فَصَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ أَفْرَادًا، ثُمَّ صَرَّحَ جَمَاعَاتٌ مِنْ زُعَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ بِالْكُفْرِ بِهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ جِهَارًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ صَارَ عُلَمَاؤُهُمْ يُعَادُونَ أَكْثَرَ تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَأَوْجَبَ مِنْهَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْعُمْرَانُ.